أولمبياد بكين …. فرصة لتكريس الأنموذج الصيني
موقع الصين بعيون عربية-
د. شاهر إسماعيل الشاهر*:
تستضيف بكين هذه الأيام ( ٤- ٢٠ من هذا الشهر) دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في دورتها الرابعة والعشرين، وبذلك تكون الدولة الأولى في العالم التي تحتضن دورتين أولمبيتين، الدورة الصيفية في العام ٢٠٠٨، والدورة الشتوية التي تقام الآن. والتي تعقد في ظروف مختلفة عن الظروف التي ترافق الألعاب الرياضية عادة. مختلفة لما سبق هذا الحدث من تسييس وتظليل من قبل دول سعت إلى عرقلة قيامه، وشككت من حيث المبدأ في قدرة بكين على إستضافته، ومختلفة لجهة إستضافته في الصين التي شهدت انتشار كوفيد ١٩ في العام ٢٠٢٠ وما تبعه من إغلاق للبلاد إنطلاقاً من أهمية الحفاظ على الإنسان وأولوية ذلك على الشأن الإقتصادي. تلك الدولة التي راهن الكثير على فشلها في مواجهة الوباء، وانكفأ العالم عن نجدتها ومساعدتها كما يجب أن يحدث لبلد يتعرض لكارثة إنسانية، لكن الصينيون نجحوا في تحويل الأزمة إلى فرصة فحموا أنفسهم وانطلقوا لنجدة إخوانهم في البشرية عبر تقديم المساعدات الطبية، والأهم من ذلك تقديم المشورات الطبية وخلاصة النتائج التي وصلت إليها الأبحاث في تلك الدولة العملاقة. فكان الدرس الصيني للعالم هو أن على الدول ألا تنتظر من يقوم بحل مشاكلها، بل عليها العمل والاعتماد على مقدرات شعبها ووعيهم والتزامهم وثقتهم بالنهج السياسي لحكومتهم التي أوصلتهم إلى المكان الذي أصبحوا فيه محط إعجاب الجميع. فأصبح العالم اليوم يرى في الصين شعب شغوف ومحب للتطور.
وكعاداتها قادت الدول المعادية للصين حملات تشويه وتظليل كبيرة نجحت بكين في كشفها ودحضها أمام الرأي العام الدولي. كل ذلك لم يحرف الصين عن دبلوماسيتها الهادئة ولم يؤجل نجاحها في تكريس الأنموذج الصيني الذي سيتحدث عنه العالم مستقبلاً.
ونجحت بكين في تأكيد قدرتها على تنظيم أكبر حدث دولي في خضم الجائحة، وتحويله إلى إنتصار سياسي عبر إجادتها توظيف استخدام القوة الناعمة لهذا البلد العريق. وكان العالم ينتظر ما ستقوم به الصين من إبداع كعادتها، فكان حفل الإفتتاح المرآة التي عكست دقة الترتيب ورؤية الصين للعلاقة مع البشرية على هذا الكوكب، والذي تزامن مع عيد الربيع (السنة الصينية الجديدة) والذي جسد شيئاً وحيداً من وجهة نظري، ألا وهو “الرؤية للمستقبل”. فكانت اللوحات الفنية في حفل الإفتتاح تركز على فكرة المحبة والتعاون بين الشعوب (معاً من أجل مستقبل مشترك). وقد شارك في حفل الإفتتاح حوالي ثلاثة آلاف شخص، وهو رقم يعتبر صغيراً بالقياس إلى دورة الألعاب في العام ٢٠٠٨ حين شارك وقتها حوالي خمسة عشر ألف عارض، وتم إختصار الوقت لحفل الإفتتاح إلى مئة دقيقة بعد أن كان حوالي أربع ساعات في العام ٢٠٠٨. كل تلك الإجراءات تماشياً مع ظروف جائحة كورونا ونتيجة للبرد الشديد في بكين الآن.
لقد استطاعت بكين توظيف الحدث وإستثماره إيجابياً، فأبدت للعالم تاريخها العريق وثقافتها المحبة للسلام، ونشرت عاداتها وتقاليدها، وعرفت العالم بأعيادها وشهورها، وبينت مزاياها الثقافية والتكنولوجية للجمهور الدولي، فالصين اليوم لم تعد متخلفة في شيء عن الدول الغربية وهي قادرة على المنافسة والفوز.
وكان لافتاً حضور عدداً كبيراً من الشخصيات العالمية وعلى رأسهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هذا الحضور كان لافتاً وكبيراً في هذا الوقت الذي لايزال فيه العالم يعيش تداعيات كورونا وإجراءات وقيود السفر بين الدول. فعقد الزعيمان الصيني والروسي قمة إستثنائية على هامش دورة الألعاب الشتوية، هذه القمة ستشكل نقطة إنطلاق محورية في التأسيس لنمط جديد من العلاقات الدولية لعل أولى تداعياته هو إعلان نهاية القطب الواحد على الصعيد السياسي، أما على الصعيد الإقتصادي فليس أقل من العمل على إنهاء سيطرة الدولار على التعاملات الدولية، والتخلص من نظام سويفت في التعاملات البنكية، والأهم من ذلك كله التكامل بين المشاريع الاستراتيجية الثلاثة الهامة للبلدين، أي مبادرة الحزام والطريق الصينية، والأوراسية التي تشكل الرؤية الاستراتيجية للرئيس بوتين، وتعزيز دور دول البريكس وإعطاءها دفعة إلى الأمام، أي أن القمة شكلت ما يمكن أن نسميه استراتيجية الأدوار المتكاملة لهذه المشاريع الاستراتيجية الثلاثة.
لقد استطاعت الصين إفشال الدعوات الأمريكية لمقاطعة أولمبياد بكين، فحضر الإفتتاح ممثلون عن 91 دولة من جميع أنحاء العالم، إلى جانب زعماء العالم، بمن فيهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأمير دولة قطر والرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش والرئيس الأرجنتيني ألبرتو فرنانديز والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. وهو ما يظهر الدعم والتأييد لسياسة الصين وحقها في إحترام سيادتها وعدم السماح بالتدخل في شؤونها الداخلية.
وعلى الصعيد الرياضي، تطمح بكين لأن تحقق أرقاماً قياسية جديدة في هذا الأولمبياد، وتوقعات بأن تحصد العدد الأكبر من الميداليات الذهبية ولتعلن للعالم أن الصين اليوم حاضرة وقادرة على المنافسة في جميع الساحات والميادين، وكانت الصين قد تصدّرت ترتيب الميداليات في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية على أرضها عام 2008.
وإنطلاقاً من الرؤية الاستراتيجية للحكومة الصينية في السيطرة على “السوق الرياضية” في المستقبل، فقد وضعت خطة لافتتاح ما يزيد على خمسة آلاف مدرسة رياضية بحلول عام 2025، وبدأت في بناء قواعد تدريب ضخمة للرياضيين مجهزة بأعلى المعايير العالمية.
فبكين تريد أن تقول للعالم، إننا نعيش في عالم تزداد فيه حدة الصراعات والإنقسامات وفقدان الثقة، لكن وعلى الرغم من ذلك كله يجب أن تكون المنافسة والروح الرياضية هي الفيصل في النجاح والوصول إلى القمة…
*أستاذ في كلية الدراسات الدولية
جامعة صن يات سين