هل الحضارة الغربية في طريقها للفناء .. والتنين الأصفر هو البديل المؤقت؟؟
موقع محيط الإخباري ـ
بقلم موسى راغب:
قبل خمسين عاماً أو يزيد ، خلص المفكر “أوزفالد شبنجلر” من دراسته لنشأة الحضارات الإنسانية وارتقائها ثم اضمحلالها وفنائها إلى استنتاج مؤداه : أن الحضارة الغربية التي وصلت الذروة في تقدمها المادي تمر الآن بمرحلة الاحتضار والاضمحلال ثم الفناء ، لتحل محلها حضارة الجنس الأصفر .
وفي محاولتنا اختبار صحة هذه الاستنتاج الذي توصل إليه شبنجلر أو لنقل الفرضية ، من خلال المعلومات والحقائق الموضوعية التي تتصل بمظاهر التقدم الذي يجتاح مجتمعات الصين واليابان ودول شرق وجنوب شرق آسيا بمعدلات غير مسبوقة ، وبقراءة متأنية للسياسات المتأنيـة التي تنتهجها تلك المجتمعات في ظل النظام العالمي أحادي القطب ، نجد أن القول بصحـة هذا الاستنتاج هو أقرب للصواب منه إلى الخطأ ، الأمر الذي لا بد وأنه يشغل حيزاً كبيراً من تفكير مخططي الاستراتيجية الأمريكية المعاصرة .
غير أن التخوف من صحة هذه النظرية التي تقول بحتمية انهيار الحضارة الغربية لتقوم على أنقاضها ثقافة الجنس الأصفر ، يبدو أنه يلقي بظلاله على سياسات الولايات المتحدة الداخلية والخارجية ، تماما كما الحال بالنسبة لعلماء الاجتماع والمؤرخين وفلاسفة التاريخ المعاصرين الذين حاولوا دحض النظرة التشاؤمية التي ينظر بها شبنجلر لمصير الحضارة الغربية ، وحتمية انهيارها وفنائها .
ذلك أن التقدم الهائل الذي أحرزته الصين بخاصة خلال العقود الثلاثة الماضية ، والذي شمل جميع الميادين الصناعية والتجارية والإنمائية وغيرها ، يبدو أنه يؤيد تلك النظرة التشاؤمية التي ينظر بها شبنجلر لنهاية الحضارة الغربية. ولعل من المفيد- في هذا المقام- أن نعرض بإيجاز لهذه النظرية والنظريات الأخرى المعارضة لها ، قبل أن نسترسل في التعامل مع هذا التفسير لدورة الحضارات والثقافات الإنسانية ، باعتباره نتاجَ نظرية علمية يمكن أن نفسر بها دوافع السياسة العدائية التي انتهجها الأمريكيون في التعامل مع قضايا العالم بعامة ، والقضايا العربية والإسلامية وبخاصة في عهد الرئيس الأمريكي السابق بوش الابن .. ثم نبني عليها مواقف وتقديرات نتمنى ان تكون أقرب للصواب منها للخطأ.
(1)
النظريات التي تتنبأ بقرب فناء الحضارة الغربية
“نظرية أوزفلد شبنجلر”
حاول شبنجلر في كتابه تدهور الغرب the decline of the west أن يحل مسألة انتظام الثقافات والحضارات الإنسانية ، وأن يحدد مراحل التغير التي تمر بها من حال إلى حال ، وقرر أنه ليس هناك تاريخ واحد ينتظم الجنس البشري ، ومن ثم فإن التقسيم التقليدي لتاريخ الإنسانية إلى تاريخ قديم ووسيط وحديث هو تقسيم تعسفي وعقيم وغير منهجي ، ذلك أنه يضع الحقائق في غير موضعها ، ويجعل من تواريخ حضارات وثقافات إنسانية عريقة مجرد توابع تدور في فلك الحضارة الغربية .
فالدلالة التاريخية الكبرى عند شبنجلر ، تكمن في تواريخ هذه الثقافات التي تتميز الواحدة منها بخصائص وسمات وأسلوب حياة تختلف عن سائر الثقافات والحضارات الأخرى ، ما يعني أن كل حضارة تمثل في ذاتها تاريخاً مستقلاً لا يتأثر أبدا بتاريخ حضارة أخرى ، ومن ثم فإن القول بوجود تاريخ واحد للجنس البشري يستتبعه القول لوجود ثقافة أو حضارة إنسانية ن ما أن تشيخ وتفنى حتى يفنى معها الجنس البشري كله ، وهذا ما يجافي الواقع .
ويرى شبنجلر أن الحضارة الواحدة تمر بثلاث مراحل (تبدأ بالنشـأة والتكوين ، ثم النضج والاكتمال ، وتنتهي بالشيخوخـة والانحلال ، حتى الموت والفناء) ، ولن تعود للحيـاة أبداً . فالتاريخ بهذا المعنى يكمن في تواريخ كل من هذه الثقافات ، ذلك أن الثقافة الواحدة كائن حيّ ، له طريقه واتجاهه الذي لا يمكن أن يحيد عنه ، والذي ينتهي إلى الشيخوخة ثم الفناء .
ويدلل على ذلك ، بأن الحضارة الغربية بكل إنجازاتها التي حققتها بتقدمها العلمي والتكنولوجي والصناعي .. تسير الآن نحو الركود والجمود ، بعد أن أخذت تفقد مقومات حيويتها ونشاطها وقدرتها على الخلق والإبداع اللازم لاستمرارها ، ما يودي في النهاية لاندثارها وفنائها ، وانتقال دورها إلى آسيا التي تدل كل الشواهد على أن حضارة الجنس الأصفر ، سوف تأخذ مكانها تماماً مثلما حدث عندما انتقل هذا الدور من اليونان إلى الرومان .
وهذه النتيجة التي توصل إليها شبنجلر ، تتفق مع آرائه في تغير الثقافات والحضارات ، حيث يرى أن عمر الثقافة الواحدة يصل إلى حوالي الألف عام ، وأن الحضارة الغربية التي بدأت – في رأيه – حوالي عام 900م ، تعيش الآن مرحلة احتضارها ، حيث تشهد حالة من التدهور والجمود التي سوف تنتهي باندثارها وفنائها .
الشاهد أن شبنجلر يعبر بآرائه هذه عن مبلغ التشاؤم الذي وصل إليه من خلال نظريته لواقع الحضارة الغربية ، والذي بلغ به حداً جعله ينظر إليها على أنها مصدر خطر يهدد العالم بأكمله .
ومبعث هذا الخطر يعود- في نظره- لمحاولة دفع دول العالم لتمثُّل مقومات هذه الحضارة (ثقافةًً ومنهج حياة) ، ما قد يعني أن تدهور هذه الدول يرتبط بتدهور الحضارة الغربية ذاتها . وهنا نقف قليلاً لنرى مدى صدق هذه النظرية بالنسبة لسياسات أمريكا نحو فرض أو تصدير عناصر الحضارة الغربية لسائر المجتمعات الأخرى ، وبخاصة المجتمعات العربية والإسلامية .
فقد عملت أمريكا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية على فرض ثقافتها وأسلوب حياتها على اليابان ودول جنوب شرق آسيا التي بسطت عليها نفوذها مثل كوريا الجنوبية . وظنت – بعد نجاحها النسبي في تغيير بعض مظاهر السلوك الحياتية في اليابان بخاصة- أنها قادرة على فرض الثقافة الغربية بقيمها ومفاهيمها على المجتمعات الأخرى .
بدليل أن بعض المسئولين الأمريكيين في إدارة بوش سربوا أنباءً عن دراستهم لإمكان تطبيق النموذج الياباني على العراق بعد احتلاله ، هذا مع الفارق في الهدف ، حيث توظف الاستراتيجية الأمريكية المعاصرة كل إمكانات أمريكا الاقتصادية والعسكرية وتفوقها العلمي والتكنولوجي ، نحو بسط سيطرتها على العالم والتحكم في اقتصادياته وتجيير ذلك كله لصالح رفاه المجتمع الأمريكي .
وهنا – أيضا – نكتشف أن توجهات الاستراتيجيـة الأمريكيـة هذه تنسجم مع تخوف شبنجلر ، من أن دفع جميع المجتمعات الإنسانيـة لتمثل عناصر الثقافـة الغربيـة ، سوف يربط مصيرها بمصير تلك الحضارة التي تمر الآن بمرحلـة الشيخوخـة والاحتضار ، والتي ستنتهي حتما للاندثار والفناء .
(2)
النظريات المعارضة لنظرة “شبنجلر” التشاؤمية
ليس من شك أن المؤسسات العلمية والبحثية التي عادة ما توظفها الإدارات الأمريكية للقيام بدراسات وبحوث تعينها في رسم سياساتها الاستراتيجية على المستوى العالمي .. قد اطلعت على نظرية “شبنجلر” في تفسير مسيرة الثقافات والحضارات الإنسانية ، والتي انتهت بتلك النظرة التشاؤمية التي تتنبأ بسقوط الحضارة الغربية وفنائها . وليس من شك – أيضاً – أنها اطلعت على النظريات الأخرى التي عارضت تلك النظرة التشاؤمية لما ستنتهي إليه الحضارة الغربية ، ووجدت فيها دعماً لتوجهات الساسة الأمريكية بعامة نحو فرض قيم الحضارة الغربية الأخلاقية وأعرافها الاجتماعية على المجتمعات الأخرى .. حتى لو اقتضى الأمر استخدام القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية .
كما وجدت فيها تعضيداً لبعض كتابات الأمريكيين المعاصرين مثل كتاب “نهاية التاريخ” لفوكوياما ، وكتاب “صراع الحضارات” لصمويل همنتنجتون ، فضلاً عن التقارير والرؤى التي يكتبها المستشارون العاملون في تلك المؤسسات التي غالباً ما تفتقر إلى الأسانيد العلمية ، كما لا تخلو من التعسف في إصدار الأحكام وكتابة التوصيات التي عادة ما تعتمد عليها الإدارات الأمريكية في رسم سياستها الخارجية .
ويعتبر المفكر “آرنولد توينبي” Arnold Toymbee من أكثر المعارضين لنظرة شبنجلر التشاؤميـة ، حيث يقرر أن الحضارات والثقافات الإنسانيـة تستطيع أن تجدّد حيويتها وتنهض من كبوتها على نحو ما ، حين تصل للمرحلة الأخيرة من دورتها وهي مرحلة الانحلال والفناء . وهو بذلك يتفـق مع ما ذهب إليه بن خلدون في مقدمتـه الشهيرة ، حيث يقول بأن الحضارة الإنسانية حين تصل في دورتها إلى طور الشيخوخة والاندثار ، تستطيع أن تبدأ دورة جديدة تقوم على أنقاض الحضارة المنهارة ، وأن تمر بذات المراحل التي مرت بها .. وهكذا .
ويرى توينبي على خلاف شبنجلر ، أن بالإمكان إيقـاف تدهور الحضارات الإنسانية ، عن طريق بعث القادة والمنقذين والمصلحين القادرين على خلق الاستجابات المناسبـة ، ومواجهـة التحديات التي تعوق تقدم الحضارة ، وذلك من خلال ما يسميه بمبدأ الارتداد والعودة Withdrawal and Return . غير أن هذه الأقلية المبدعة يمكن أن تتحول- في نظره- لأقلية مسيطرة تفرض وجودها بالقوة حينما تصل الحضارة أوج عظمتها ، ما يعني أن قدرة الإبداع والخلق- وهي شرط التقدم عنده- لم تعد تتوافر في القادة ، الأمر الذي تبدأ عنده الحضارة بالتدهور والانحلال .
وقد حاول العالم الأمريكي سوروكين Sorokin وهو من أصحاب النظريات الدائرية ، وعدد آخر من العلماء الأمريكيين الذين تناولوا هذا الموضوع بشكل أو بآخر ، وعلى رأسهم وليم أجبرن W.Ogburn صاحب نظرية التخلف الثقافي Cultural Lag .. نقول : حاول هؤلاء دحض هذه النظرة التشاؤمية لشبنجلر .
فسوروكن الذي يعتبر من علماء الاجتماع ذوي النظرة التفاؤلية في تفسير مسيرة الحضارات والثقافات الإنسانية ، يرى أن الثقافة حين تصل إلى الإغراق المفرط في الماديـة وتنتهي إلى الوهن والضعـف .. تستطيع أن تجدد نفسها ولا تموت أبدا ، وذلك بالرجوع للقيم الروحية والدينيـة التي تعيد للثقافـة نشاطها وحيويتها عن طريق بعث القادة والمخلصين ، أو تتحول من المظهر الحسي sensate من الثقافة إلى المظهر الفكري ideational .. .. وهكذا .
ذلك أن جميع المجتمعات الإنسانية تتذبذب بين مظهرين للثقافة أولهما : المظهر الفكريIdeational ، وهو يمثل لديه الجانب الحسن goodness الذي ترتبط فيه اهتمامات الأفراد باعتبارات فكرية وبخاصة سيطرة الأفكار الدينية . وثانيهما : المظهر الحسي Sensate ، وهو يمثل الجانب السيئ Badness الذي يتميز بانصراف الأفراد عن المعايير الدينية ، وانكبابهم على كل ما هو محسوس ، واهتمامهم بكل ما يحقق المنفعة الذاتية لهم .
ويخلص سوروكن من نظريته إلى القول بأن جميع الثقافات والحضارات الإنسانية ، لا بد أن تخضع- في مختلف مراحل تاريخها- لهذا النمط من التغير ، حيث تجدّد نفسها باستمرار ولا تموت أبداً . وهو- بهذا الموقف ، إنما يخالف شبنجلر رأيـه بأن الحضارة مصيرها الاندثار والفنـاء .
أما عالم الاجتماع الأمريكي وليم أوجبرن ، فيرى أن الثقافات والحضارات الإنسانية لا تندثر بفعل التقدم المادي ، ذلك أن التقدم التكنولوجي وتقدم الاختراعات هو المعيار الذي يقاس به تقدم الثقافات والحضارات الإنسانية . أما التخلف الثقافي الذي يحدث في المجتمعات الإنسانية ، فيأتي نتيجة الهوة Lag التي غالباً ما تتشكل بسبب سرعة استيعاب المجتمعات للجانب المادي من الثقافة Material Culture عنه للجانب المعنوي Non Material Culture. ويبدو أن آراء أوجبرن هذه والتي لا تخلو من النقد ، لا بد وأنها تلاقى استحساناً من مخططي الاستراتيجية الأمريكية ، اعتماداً على ما حققته وتحققه أمريكا من تقدم علمي وتكنولوجي هائل .
ثم تأتي أخيراً آراء بعض المفكرين الأمريكيين الذين حاولوا البحث في مسيرة التاريخ الإنساني مثل مؤلف “نهاية التاريخ” لفوكوياما ، الذي حاول فيه البرهنة على أن التاريخ الإنساني قد بلغ نهايته ، وكذلك مؤلف “صراع الحضارات” لصموئيل همنتنجتون الذي حاول فيه التأكيد على حتمية الصراع بين الحضارات وبخاصة بين الحضارتين الغربية والإسلامية ، الأمر الذي جاء على هوى السياسة الأمريكية العدوانية التي تنتهجها إدارة الجمهوريين حيال العرب والإسلام والمسلمين ، تحت دعوى محاربة الإرهاب .
واستطراداً لما سبق نتساءل : إذا جاز لنا في هذا المقال حق الاستدلال على صدق هذه النظريات أو خطئها ، في ضوء المعطيات والوقائع التي تنتظم المجتمعات الإنسانية المعاصرة بمختلف انتماءاتها الثقافية والحضارية .. فهل سيعين ذلك في معرفة مدى قلق الولايات المتحدة من فقد سيادتها على العالم خلال العقود الثلاثة القادمة على الأقل لصالح الجنس الأصفر ، نظراً للتقددم المطرد الذي تحرزه الصين بخاصة وشعوب الجنس الأصفر الأخرى بعامة في شتى الميادين أولاً ، ثم في معرفة مدى مطابقة السياسات والمواقف التي تتخذها الولايات المتحدة من العرب والإسلام والمسلمين ، لما تقول به نظرية شبنجلر بشأن المصير المحتوم الذي ينتظر الثقافة الغربية التي جعلت أمريكا من نفسها الراعي لها والمدافع عنها ثانـــياً ؟ .
(3)
هل المواجهة بين أمريكا والصين حتمية
لعل أكثر ما شد اهتمام السياسيين الأمريكيين عقب انتهاء المؤتمر السادس عشر للحزب الشيوعي الصيني ، هو تبديل القيادة الصينية بزعامة “تسي من” ، وبخاصة أن التقدم المذهل الذي حققته الصين في العقدين الماضيين على الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلاقات الدولية ، ينفي أي احتمال قيام معارضة مؤثرة على القيادة الصينية التي جرى استبدالها .
وقد جاءت الإجابة على ذلك سريعة على لسان عدد من المحللين السياسيين ، الذين يرون أن ما حدث كان استجابة طبيعية وطوعية من القيادة السابقة لمطلب تجديد دم القيادة الصينية وتحديثها ، لتواكب التطورات السريعة التي تجتاح النظام العالمي أحادي القطب ، الذي تحاول الولايات المتحدة من خلال زعامته السيطرة على الاقتصاد العالمي والهيمنة على العالم .
ويدللون على ذلك ، بتأكيد القيادة الجديدة على بقاء الحزب الشيوعي كقوة قيادية وتشريعية ورقابية وتنفيذية تتمتع بصلاحية اتخاذ القرار على كل المستويات . لكن هذا لا يعني أن الشيوعية- في نظر القيادة الصينية الجديدة- تظل هدفاً غائياً وأيديولوجية لا تُمس ، وإنما هي وسيلة لضبط إيقاع الاستقرار في المجتمع أثناء توجهه نحو تحقيق أعلى معدلات للتنمية ، وبناء قوة عسكرية تمكنها من الوقوف بندية أمام القوى العالمية الفاعلة ، وبخاصة الولايات المتحدة.
ويرون كذلك ، أن القيادة الصينية السابقة قد استفادت من التجربة التي مرت بها روسيا الاتحادية والجمهوريات التي كانت تنضوي معها تحت لواء الاتحاد السوفييتي السابق ، وبخاصة بعد الانهيار الاقتصادي والاجتماعي المروع الذي أصابها ، نتيجة التحول المفاجئ (وغير المسبق) من النظام الاشتراكي إلى الأخذ بنظام السوق .
فقد رفضت الصين أن تنساق وراء الشعارات التي كانت تصدر عن الدوائر الغربية وبخاصة الأمريكية منها ، والتي تدعو لتغيير الأوضاع فيها دفعة واحدة ، أسوة بما حدث في جمهوريات الاتحاد السوفييتي المنحل ودول أوروبا الشرقية ، ودون مراعاة للأبعاد الاقتصادية والاجتماعية الخاصة التي تتميز بها ، فضلاً عن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تحتاج لمستوى عالٍ من التقنين والضبط ، حتى يتم محاصرتها ووضع الحلول المناسبة لها .
والواقع أن القيادات الصينية استطاعت خلال العقدين الماضيين أن تجعل من ارتفاع عدد سكانها عاملاً رئيساً في تحقيق معدلات نمو عالية ، حيث استطاعت توظيف الطاقة البشرية في تحقيق معدلات نمو مرتفعة بلغت في إحدى السنوات أكثر من 12% . كذلك نجحت في استثمار موارد الصين الطبيعة بصورة جعلتها في منأى عن الاحتكار الأجنبي ، كما استغلت رخص اليد العاملة فيها في تأمين القدرة التنافسية للمنتجات الصينية وإغراق العالم بها .
زد على ذلك أن نجاحها في تفعيل العقيدة السائدة بين الصينيين منذ قيام دولتهم ، عن أن الخطر الذي كان وما زال يحدق بالصين ، إنما يأتي من التطلعات الأمريكية للسيطرة على دول شرق وجنوب شرق آسيا التي يقطنها الجنس الأصفر ، الأمر الذي اعتبر حافزاً ثابتاً وفاعلاً لتماسك الشعب الصيني ، ووقوفه أمام التيارات التي تستهدف خلخلة نظامه .
أما على صعيد السياسة الخارجية ، فقد استطاعت القيادة الصينية أن تستوعب جيداً المتغيرات التي طرأت على الساحة الدولية ، وبخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ، وانحسار المد الشيوعي في العالم . لذلك نرى الصين في هذه المرحلة ، وكأنها تهادن القطب الأوحد الذي يفغر فاه ليبتلع العالم ، في الوقت الذي تحاول فيه إقامة شبكة واسعة من العلاقات مع العالم الخارجي .
وهنا نعود فنقول : إن ما ذهب إليه شبنجلر من أن حضارة الجنس الأصفر هي الوريث القادم للحضارة الغربية ، يبدو أنه يتمتع بقدر كبير من الموضوعية ، ذلك أن المقومات المادية والفكرية التي تتوافر لدى الصين بوجه خاص ، تؤهلها للقيام بهذا الدور . فضلاً عن أن أي محاولة لوأد هذا الدور في المرحلة الراهنة محكوم عليها بالفشل . ذلك أن الصين تخطت ما يمكن أن نسميه (إجرائياً) بنقطة (الضعف القاتل) ، كما تتمتع بقوى اقتصادية وعسكرية ومعنوية تكفل صمودها ونجاحها في صد تلك المحاولات ، والخروج منها سليمةً معافاة .
وأغلب الظن أن هاجس أمريكا من تنامي قدرة الصين الاقتصادية والعسكرية بصورة تصبح معها قادرة على منافستها في قيادة العالم ، أصبح الشغل الشاغل للسياسة الأمريكية الراهنـة . ذلك أن هذا الهاجس قد يصبح دافعاً حاسماً لقيام الولايات المتحدة بعمليات عسكرية ضد الدول المحيطة بالصين ، بهدف احتوائها والحد من خطورة اتساع نفوذها على المستوى الإقليمي على الأقل ، وهذا ما حاولت تحقيقه من خلال حربها في أفغانستان .
كما يمكن اعتبار هذا الهاجس من نتائج الإغراق في المادية التي يعيشها المجتمع الأمريكي المعاصر ، وابتعاده-المتزايد عن الجوانب الفكرية والروحية والدينية التي نادت بها النظريات المعارضة لنظرية شبنجلر . وحتى إذا أخذ مخططو الاستراتيجية الأمريكية بالنظريات التي تقول ، بأن تدخل العنصر البشري يعين في تقدم المجتمعات .. فما الذي يضمن أن يتم تدخل أمريكا الحالي في شئون العالم ، أن يسير نحو هذا الاتجاه ولا يأتي بنتائج عكسية ؟ .
لعل الدليل الحي على ذلك ، هو غزو أمريكا الأرعن للعراق واحتلاله ، ومن قبل اجتياح أفغانستان . فهي ، وإن كانت (تستهدف- في حقيقة الأمر- السيطرة على منابع النفط في المنطقة بهدف تأمين تدفقـه للدول الحليفة لها) ، غير أن السؤال الذي يفرض نفسه على أصحاب القرار في البيت الأبيض الذين يصرون على تجاهله هو : كيف يمكن توظيف مثل هذا التدخل أو ترجمته لأفعال من شأنها أن تحقق هذا الهدف ؟!!.
ثم وهذا هو الأهم : ماذا عن النتائج التي يمكن أن تنجم عن غزو بلاد كالعراق او أفغانستان ، وما تأثيراتها على المنطقة والعالم ، بل وعلى أمريكا الغارقة في وحل المادية المفرطة التي تلغي أي وجود للقيم الروحية والدينيية والفكرية التي يعتبرها أصحاب النظريات المتفائلة ، شرطاً لتجديد حيوية وشباب الحضارة الغربية التي تمر الآن بمرحلة الشيخوخة والاحتضار ، انتظاراً لفنائها المحتوم على ما يقول شبنجلر؟.\
لا شك أنها تمثل عبئاً ثقيلاً على العالم بعامة وعلى أمريكا واقتصادها بصفة خاصة ، وهذا ما اتضح من الازمة الاقتصادية التي طالت اقتصاد الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي حين أنهارت البورصات فيه ، وأفلس العديد من شركاتها العملاقة ، وارتفع سقف ديونها المحلية والخارجية لحد خطير ، ما أوجب على الإدارة الأمريكية في عهد أوباما التدخل السريع والمقلق (بالنسبة للقواعد التي تنتظم “اقتصاد السوق”) ، كي تمنع سقوط تلك المؤسسات بصورة درامية تؤثر على مستوى معيشة الفرد وعلى الدخل الإجمالي القومي .
(4)
السياسة الأمريكية نحو العرب والعالم
ليس من شك أن الولايات المتحدة حققت تقدماً هائلاً في شتى الميادين ، ما دفع بقياداتها للاعتقاد بأنها أهل لتولي زعامة العالم وقيادته والانفراد في اتخاذ القرارات الهامة بشأنه ، وأن العمل على تحقيق هذا الهدف واجب مقدس ينبغي تنفيذه ، حتى لو استوجب الأمر استخدام القوة المسلحة . وهذا يذكرنا بنظرية سوروكن التي تقول بأن القادة والمصلحين الذين يأخذون بزمام المبادرة لتجديد حيوية الحضارة والتخلص من جمودها .. قد يتحولون في لحظة ما ، لقوة متسلطــة تأتي بنتائج عكسية لما أوتوا من أجله .
حقاً إن واجب أي مجتمع أن يعمل على تحقيق المستوى الذي يرتضيه لحياته ، غير أن ما هو حق أيضاً أن يتم ذلك من خلال تقويم موضوعي لإمكانات المحيط المادي والفكري الذي يعيش فيه المجتمع .. وهذا ما تقول به النظريات الاجتماعية التي تعنى بدراسة الجوانب الديناميكية والاستاتيكية في الثقافات والحضارات الإنسانية . فهل ما تقوم به الولايات المتحدة الآن من أعمال تعسفية بحق العديد من شعوب العالم وتأييدها للطغاة المستبدين من أمثال نتياهو ومن قبله شارون والصهاينة عموما وحلفائهم ، يدخل في هذه الإطار ؟ .
صحيح أن المجتمع الأمريكي قد حقق من التقدم ما لم تحققه مجتمعات أخرى ، وصحيح أنه يستحق بذلك مكانة خاصة بين دول العالم ، غير أن ما هو صحيح أيضاً أن السياسات المتعسفة التي تحاول الإدارة الأمريكية الحالية فرضها على العالم ، وعزوف رجالها عن الاستماع لكائن من كان حين يتخذون قرارات تُهم المجتمع الدولي .. من شأنه أن يثير تساؤلات حول أحقية تزعم أمريكا للعالم والتفرد بقيادته ، وهي على هذا الحال من الغطرسة والاستعلاء .
والأدلة على ذلك كثيرة .. يكفي أن نذكر منها على سبيل المثال ، موقفها المتحيز لإسرائيل الذي أوقع وما زال يوقع أبلغ الضرر في القضية الفلسطينية ، وفي حق الشعب الفلسطيني في استخدام كافة الوسائل المتاحة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي . كما نذكر موقفها من العراق الذي غزته بدعوى انه يمتلك أسلحة نووية ، بينما تقف على النقيض من ذلك حين يأتي الحديث عن السلاح النووي الإسرائيلي .
أضف إلى ذلك أن أمريكا – في محاولتها الحفاظ على تفوقها الاقتصادي ، تلجأ لأساليب تعسفية مثل محاولة فرض العولمة في كل شيء (حتى القيم الثقافية) على المجتمعات الأخرى ، والاستيلاء على منابع النفط فيها ، فضلاً عن فرض العقوبات الاقتصادية والسياسية والعسكرية الظالمة على البلدان التي تعارض سياساتها . فمن أجل تحقيق هذا التفوق ، نراها تنتهج عدداً من الطرق لبسط سيطرتها على المناطق التي تمتلك المحرك الأول للاقتصاد العالمي ونعني به النفط لعا من أهمها :
1- استخدام القوة الطاغية التي تمتلكها في فرض سيطرتها المادية على دول الخليج العربي التي تختزن في باطنها أكثر من 60% من احتياط النفط العالمي ، وتدعيم القواعد العسكرية القائمة فيها وإقامة قواعد جديدة لها على أرضها ، إضافة لاحتلالها العراق الذي يمتلك نحو 12% من احتياط النفط العالمي ومن قبله احتلال أفغانستان .. ومن بعده .. الله أعلم!! .
2- إقامة تحالفات مع الدول التي تتقاطع مصالحها مع المصالح الأمريكية في المنطقة وبخاصة إسرائيل .
3- محاولة تغيير القيم الدينية والأخلاقية السائدة في مجتمعات المنطقة ، وذلك بمحاولة إيجاد قيم بديلة تتفق مع أهداف أمريكا في فرض الثقافة الغربية عليها وضمان تبعيتها لها .
4- محاولة تغيير الأنظمة التي باتت في نظر الإدارة الأمريكية غير قادرة على مسايرة المخططات الأمريكية في المنطقة ودعمها ، والتي لم تعد تحظى من شعوبها على الثقة والاحترام بسبب تبعيتها لتوجهات السياسة الأمريكية في المنطقة العربية .
وليس من شك ، أن هذا التدخل لن يقتصر على منطقة الخليج فحسب ، وإنما يتعداه ليطال الدول العربية التي تعتبر حليفة تقليدية لأمريكا ، كما يطال دول آسيا الوسطى وبحر قزوين الذي يختزن في قاعه مخزوناً هائلاً من النفط ، ناهيك عن توجهات الإدارات الأمريكية لضرب العديد من الدول العربية والإسلامية بدعوى محاربة الإرهاب . في حين أن هذا التدخل ينبغ- في حقيقة الأمر- من حقد دفين ، يبيّته التحالف غير المقدس بين الأصولية المسيحية والأصولية اليهودية ضد العرب والإسلام والمسلمين ، والذي تبنى بوش والمحافظون الجدد تنفيذه بحماس شديد حين كانوا يحتلون البيت الأبيض .
والواقع أن تفسير هذه الممارسات في ضوء النظريات السابقة التي حاولت طرح المراحل التي تمر بها الحضارات والثقافات الإنسانية في تبدلها من حال إلى حال ، هو أمر بالغ الصعوبة . ذلك أن وتيرة الحياة في المجتمعات الإنسانية المعاصرة ، وبخاصة عقب الحرب العالمية الثانية ، وكذلك التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي تحقق ، وثورة الاتصالات التي فاقت في تقدمها كل تصور ، وتطور وسائل النقل الجوي والبري والبحري .. كل ذلك يجعل من الصعب تفسير سلوك الإدارة الأمريكية الاعتباطي ، الذي تحركه فقط أطماع أباطرة شركات النفط وصناعة السلاح الأمريكية ومصالح الشركات والرساميل ومجموعات الضغط اليهودية ووسائل الإعلام الصهيونية .. ليس حفاظاً على مقومات الحضارة الغربية التي فقدت معظم مقوماتها المعنوية بسبب إغراقها في مستنقع المادية المفرطة ، وإنما لصالح المجتمع الأمريكي ورفاهيته على حساب الآخرين ليس إلا .
صحيح أن هناك نظريات تقول بإمكان أو وجوب تدخل العنصر البشري لإحداث تغييرات في المجتمعات الإنسانية كما ذكرنا ، ولكن .. تحت شروط معينة وقواعد علمية محكومـة وفي حدود مرسومة . أما ما يقوم به غلاة الساسة الأمريكيين المعادين للمجتمعات الإنسانية بعامة ، والعرب والمسلمين بخاصة من تدخل عسكري .. فمن غير الصحيح الاعتقاد بأن ثمة نظريـة ما تستطيع أن تفسر هذا السلوك لصالح الحضارة الغربية .
(5)
موقف أمريكا من التحدي القادم من الصين
من غير المنطقي أن يطالب أحد أمريكا بأن تظل ترقب الموقف في الصين عن كثب دون أن تفعل شيئاً ، لكن خيارات الفعل أمامها في حالة الصين ، تكاد تكون معدومة .. إلاً من خيار واحد وهو الانتظار قسراً ، حتى تكشف السنين وربما العقود القادمة عن حقيقة القوة الكامنة في التنين الأصفر ، الذي فاجأ العالم بصحوته وتسارع خطواته نحو تبوأ مكانه بين القوى العظمى . وحتى تكشف الأمور على النحو الذي تريده أمريكا ، نجدها تُجدّ في اتخاذ إجراءات ترى فيها وقاية من الأخطار القادمة من شرق آسيا ، من أهمها :
1- الإصرار على تواجدها في المناطق التي تمكنها من الوقوف عن كثب على ما يجري في الصين ، وإنشاء قواعد عسكرية تدعم هذا التواجد . وهذا ما حدث بالفعل في حرب أفغانستان ، وما يمكن أن يحدث مستقبلاً في مناطق أخرى محيطة أو قريبة من الصين .
2- محاولة مد النفوذ الأمريكي لدول آسيا الوسطى ، سعياً وراء إقامة حزام أمريكي حول الصيـن ، يتيح للأمريكيين فرصة منعها من التمدد نحو تلك البلدان .
3- حرص أمريكا على تغطية حاجتها من النفط خلال العقدين القادمين اللذين سيشهدان زيادة مطردة في كمية النفط التي تستوردها من الخارج تصل لحوالي 25% من مجمل استهلاكها السنوي ، وحاجتها للحفاظ على الدخول الهائلة لصناعة السلاح الأمريكية ، ونهم اقتصادها الشديد لوجود أسواق ضخمة تستوعب منتجاتها .. كل ذلك يدفعها للعمل على إيجاد صيغة من شأنها أن تحفظ التوازن بين حتمية التصدي الأمريكي للتنين الأصفر من ناحية ، وبين حاجة أمريكا للسوق الصينية باعتبارها سوقاً استهلاكية واعدة ، لا يستطيع الاقتصاد الأمريكي الاستغناء عنها من ناحية أخرى .
4- إيجاد صيغـة للحد من قدرة الصين ودول شرق وجنوب شرق آسيا التنافسيـة ، والتصدي لمحاولاتها إغراق الأسواق العالمية بمنجاتها ، بما في ذلك السوق الأمريكية .
ومهما يكن من أمر ، فإن ثمة تساؤل هام عما إذا كانت أمريكا سوف تلجـأ لخيار الحرب ، إذا ما فشلت في احتواء تطلعات التنين الأصفر . وهذا أمر يصعب تقديره ، سواء من منظور النظريات التي تفسر مراحل تغير الثقافات والحضارات الإنسانية في صورة دائرية أو في صور أخرى . وهذا ينطبق أيضاً على النظريات ، أو لنقل المقولات التي ينادي بها مفكرون أمريكيون معاصرون ، مثل مقولة فوكوياما في “نهاية التاريخ” ، ومقولة هنتنجتون في “صراع الحضارات” . ذلك أن الارتقاء بآراء هنتنجتون لمستوى النظرية ، يعني الأخذ – بصورة أو بأخرى – بحتمية الصراع بين الحضارة الأمريكية والثقافة الصينية المعاصرة ، وهذا ما يُشك في حدوثه في المستقبل المنظور على الأقل .
ولا يقلل من صدق هذا التوقع ، القول بأن الحرب التي تشنها أمريكا الآن على العرب والإسلام والمسلمين ، تعتبر مظهراً من مظاهر صراع الحضارات الذي قال به همنتنجتون في مؤلفه المذكور . ذلك أن ما من نظرية قديمة أو حديثة ، تستطيع أن تفسر السياسات التي قامت الإدارات الأمريكية بتنفيذها تجاه العالم بعامة ، واتجاه العالم العربي والإسلامي بخاصة ، (غير الرغبة في السيطرة على الاقتصاد العالمي ، وعلى النفط الذي يعتبر عماد هذا الاقتصاد) .
فالأسباب والمبررات التي تستند إليها تلك السياسات الاعتباطية التي تحركها غطرسة القوة ، والمصالح الذاتية لأباطرة شركات النفط ، وصناعة السلاح الأمريكية .. لا يمكن انتظامها في سياق نظرية علمية سليمة .
وفي النهاية .. لم يتبق لدينا ما يقال .. سوى الانتظار .. فالأحداث التي تجيب على هذه التساؤلات وغيرها مما أثرنا ، قادمة بأسرع مما يمكن لنظرية ما أن تتوقعه وتقدّره وتفسره . فغطرسة القوة لدى أعداء العرب والإسلام والمسلمين ، لا بد وأن تأتي بنتائج على غير ما يشتهون .