في ندوات التنمية السلمية الصينية
صحيفة الديار الاردنية:
مروان سوداح:
في عودة الى التاريخ الصيني الحديث، نقرأ عن أن مفهوم “تنمية السلام” ليس مفهوماً جديداً ولا مستحدثاً في الفكر الصيني المعاصر، كما أنه غير طارئ على حياة الصينيين، وإن كان أُدرج مؤخراً، وتحديداً في العام الماضي، في مهام “الكتاب الأبيض” السنوي، ليُثبّت كمهمة رئيسية وأساسية وإستراتيجية، غير مرحلية، تقع على كواهل البلد العظيم وشعبه، بغية تنميتها وتطويرها والعناية بها لتطبيقها على كل الصُعد محلياً وأُممياً، ولتكون هذه الفكرة الإنسانية مَخرجاً مناسباً وصالحاً في تربة الصين من الصِعاب ومذللة للجُدر، وحَلاً لا حياد عنه لتطوير الصين الى ذُرى لم يسبق لها أن ولجتها منذ بدايات “تاريخها الطويل والمخضرم”.
لكن، يبدو أن بعض المدعوين الى الندوة الثالثة للصحفيين التي عُقدت قبل أيام في الصين وانتهت، لم يدركوا هذا التوجه الصيني، فاعتقدوا بأن الشعار مجرداً من مضامينه، وبأنه بروتوكولي الهدف ودارج التوظيف، وبالرغم من ذلك لا أرى خطيئة في هذا التصور، فإدراكه والإحاطة به يحتاج، بالطبع، الى تعمّق في دراسة تاريخ الصين وسياساتها ومكنوناتها، وإلماماً بأنشطتها ومراميها، وطبيعة الشعارات التي تطرحها وتعمل على هديها.
فالصين في حاجة ماسّة الى السلم وتنميته، لما له من انعكاسات حاسمة على اقتصادها وسياساتها ووضعيها الداخلي والخارجي، ومستوى حياة سكانها وآمال الأخذ بها الى الثريا دونما توقف، فتوقف تنمية السلم إنما يعني توقفاً قسرياً في وتائر التنمية، وتراجعاً في القدرات، وانكفاءً في الآمال الكبار المعقودة عليه.
تستند السياسة الصينية الى ركائز تاريخية، ووطنية، وتراكمات تركت بصماتها على القياديين الصينيين، وعلى الصينيين جميعاً، فتراهم يتخذون قراراتهم بهدوء وروية وبلغة رشيقة تضج بالمعاني والدلالات للنابه والمُطّلع والخبير، ولا تتخذ سوى بعد دراسات ممحِصةٍ، لتكون في محلها وهدفها، فالخطأ لديهم مرفوض، لكونه مُمرِضَاً ومَقتلاً ويجر الى مستنقعات، في بلد يصل عديد سكانه حالياً بحسب بعض الإحصائيات الى ملياري نسمة، يتوسلون حياة هائنة ومستقبلا مضموناً لأجيالهم.
البلدان العربية هي الأخرى في حاجة ماسّة هذه الأيام الى دراسة مُعمّقة لسياسة ونهج تنمية السلم الصينية، والى تنمية السلام في سهول وروابي الأمة وقِممها، ليكون سلاماً تركن النفوس إليه وفيه، وسلاماً بين الناس، وفي علائقهم الثنائية والجماعية والجمعية، وليترسّخ تقليداً بين الطبقات والفئات والشرائح، ولأن يغدو إستراتيجية داخلية قبل السلم الخارجي الذي يعتمد في ازدهاره وإزهاره على الوضع المحلي أساساً، ويرتكز الى طبيعة آلياته والقرارات المستهدِفة له.
سيُدهش العالم عندما ترسّخ الصين أساساته النهائية، ولا أريد القول عندما تحكمه، لأنها لا تحكم بل تتعاون مع الآخر وتعمل معه وإيّاه، فهي إذ انساقت وراء الواقعية في السياسة والليونة، إنما اكتسبت خبرات من واقع الحال العالمي، فكان أن نشرت امتداداتها السلامية والسلمية في كل الإتجاهات إقتصادياً في البدء، برغبة الآخر وترحيب منه، أو من كلِ هذا الآخر، الذي رحّب بها بعد أن كان متخوفاً منها، وقد اكتسبت ما يمكن ان أسمّيه في فكرها بـ”طريق الماء”، المُستند الى التاوية، ويتوافق في جزئيته مع نظرية المفكر الصيني الكبير “لاو تز”، في القرن السادس قبل الميلاد، إذ كان هذا الفيلسوف ملتزماً بنهي الإنسان عن مقاومة الطبيعة، وداعية ليتوافق معها ومع مكوناتها والانسان واحدة من هذه المكونات، وللحديث بقية.
**********
الصين.. إرتقاء بمواجهة إنكفاء!
لم تكن مصادفة أن يَعلو شعار “السلام” كقاعدة للدورة الثالثة لـ”ندوة التعاون الصيني العربي”، في مجال الإعلام، التي إفتتحت في مدينة قوانغتشو في جنوب الصين، مصادفة، كما لم يكن الأمر مجرد توظيف ما لشعارات هدفها إستجلاب الضيوف الأجانب، أو تبادل الأنخاب والكلمات معهم عن الصداقة والتعاون. لذا، فقد كانت الندوة التي حضرها حوالي مئة مسؤول إعلامي عربي بالإضافة الى المسؤولين الصينيين، وجمع من ممثلي وسائل الإعلام الرئيسية الصينية والعربية، مهمة على نحو خاص بتمثيلها وأهدافها في الحقبة التي نشهدها في العالم العربي، وهي تشي بتطورات مأساوية لاحقة على مستقبلنا، وفي زمن يتسارع فيه نمو الصين الإقتصادي، وبالتالي يزداد ثقلها السكاني والإقتصادي والعسكري والسياسي على مساحة العالم، وكما نوّه السيد “وانغ تشونغ وي”، نائب مدير مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني في خطابه أمام المشاركين، في جلسة الإفتتاح، فأن هذه الندوة التي يُنظمها المكتب وأمانة جامعة الدول العربية، تولى أهمية كبرى منذ تأسيسها للدور الرئيسي الذي يؤديه التعاون الإعلامي في دفع التبادلات الصينية العربية، وفي تعميق التفاعل بين الحضارتين العظيمتين. بيّن المتحدث الصيني “وانغ تشونغ وي” المهام الرئيسية الماثلة أمام وسائل الإعلام من الجانبين، وتتلخص في تعزيز تبادل المعلومات لخدمة التعاون الإعلامي، عن طريق تبادل زيارات الصحافيين والمحررين وأخبارِهم، وضروة العمل على نشر مفهوم “السلام والتنمية والتعاون والفوائد المتبادلة والتسامح” من خلالهم، وعلى أساس حماية تنمية العلاقات الصينية العربية، ولقد كان إتفاق الصديق الدكتور طارق عبد القادر، مدير إدارة الرصد والإنتاج الإعلامي في جامعة الدول العربية مع المتحدث الصيني جلياً بالدعوة الى لزوم رفع مصداقية وسائل الإعلام لخدمة التعاون، ضمن جوامع الطرفين على المسرح العالمي، وهي فكرة يتطلع اليها العرب حالياً بعدما إكتوى عالمنا بنار التضليل الإعلامي والحريق المعلوماتي المُفبرك بفعل العقول المرتهنة والتقنيات الحديثة، المشوِّهَةِ للصورة والصوت والواقع والحقيقة. الجانب الصيني لم يكتف بندوات على شاكلة هذه الندوة الدولية، وهي بالمناسبة ندوات كثيرة العدد، تعقد سنوياً في بكين والمدن الصينية الأخرى، ويشارك فيها عدد كبير من الإعلاميين العرب والاردنيين، من الصحف والإعلام المرئي والمسموع، لذا فقد بادرت الصين مؤخراً الى تعزيز معاهدها ومؤسساتها البحثية والدارسية الخاصة بالعالم العربي، فافتتحت في “جامعة اللغات والثقافة” في بكين في السادس والعشرين من نيسان الماضي، مركزاً جديداً للدراسات العربية، كان نائب وزير الخارجية الصيني، (تشاي جون)، الشخصية الرئيسية في حفل الإفتتاح المهيب، مما يدلل على اهتمام الصين بهذه الدراسات والمؤسسات على أعلى المستويات، إبتداءً من فخامة رئيس الدولة (هو جين تاو)، ومروراً بوزير ووزارة الخارجية، والوزارات الأخرى، التي تنظم البرامج للتعاون مع الصين، ولا تنتهي عند حدود مؤسسات المجتمع المدني الصينية، وتكمن أهداف هذه الأُطر في دراسات الكثير في الظواهر العربية ومنها السياسية، التي آلت المنطقة الأوسطية إليها أخيراً، وكان نائب وزير الخارجية الصيني محقاُ، وهو يشغل أيضا منصب “الرئيس الفخري” لهذا المركز، حين قال “إن الأوضاع في غرب آسيا وشمال إفريقيا تشهد حالياً تغيّرات كبيرة، وفي ظل الظروف الجديدة، تبرز حاجة الصين إلى متابعة آخر تطورات الأوضاع في العالم العربي، وبحث سُبل تعزيز الصِلات الصينية العربية”، لذا يُعتبر المركز الجديد هذا “عاملاً يُهيّء للصين معبراً جديداً للتعرّف على المنطقة العربية”، بالرغم من توافر مراكز ثلاثة أخرى رائدة في مجال الدراسات العربية، كانت اُقيمت بموافقة وزارة التربية والتعليم الصينية ومباركة الحكومة الصينية، وهي خطوات صينية متلاحقة لا نشهد مثيلاً لها في العالم العربي، بحسب علمي، فلا يوجد لدينا مراكز جادة لدراسة الصين وحضارتها وسياستها، وهي مهمة ملحة وتبدو لازمة أيضاً لجهة فهم الصين وإداركها والتواصل معها، قبل أن تصبح هذه الدولة الجبارة في السنين المقبلة الأولى في العالم إقتصادياً بدلاً من الولايات المتحدة الأمريكية، التي بدأ جسدها بالضمور والهرم، وصولجانها بالذبول، وصوتها بالخفوت وضوئها الأفول.
**********
ندوة من وحي الطريق!
ندوة التعاون الصيني العربي الثالثة التي عقدت في مقاطعة كوانغتشو، وانتهت قبل أيام وكانت رفعت شعار “لندفع بالتعاون الإعلامي ونعزز العلاقات الإقتصادية والتجارية بين الصين والدول العربية”، كانت من وحي طريق الحرير العريق والشهير، وقد أكدت بما لا يدع مجالاً للشك، أن هنالك تواصلاً حقيقياً ومتسِعاً يجري بين العالمين الصيني والعربي، وبأن مسؤولي الإعلام في العالم العربي وبالرغم من تباين في بعض الرؤى السياسية الرسمية بينهم وبين العالم الصيني على خلفية الاحداث العربية وما تتعرض إليه سورية الصمود وبعض الدول العربية من هجمات شرسة، إلا أنهم يحرصون على التواصل وبناء الجسور مع الصين الكبرى، سيما لأن العالمين باتا في حاجة ماسة الى بعضهما بعضاً في الكثير الكثير من الملفات القارية والعالمية، السياسية والإقتصادية وما إليها.
الندوة إستمرت لأيام قليلة، إلا أن الحضور العربي فيها كان واسعاً وعلى درجة رفيعة من التمثيل: الوزراء والسفراء والمدراء في مواقعهم الإعلامية والمسؤولين، وبعضهم زار الصين للمرة الأولى في حياته، فكانت فرصة سانحة وفريدة للإطلاع وتوسيع آفاق الثقافة الشخصية عن بلد غدا قارة، ودولة أصبحت عالماً متكاملاً يجمع العوالم في بؤرة واحدة.
شارك في الندوة التي تعقد عادة في عاصمة عربية أو في مدينة صينية أكثر من مئة مسؤول عربي، جمعت في اجتماعاتها وأنشطتها المتلاحقة ممثلي الإعلام من البلدان العربية، رغبة بالتواصل الندي بين رجال الصحافة والقلم والكلمة، علّهم يجدون الجوامع الفُضلى والأرقى أو يكثّرون منها، وعلّهم يتفهمون أكثر وبصورة أعمق أهمية الجَسْرِ الإعلامي بين وسائل الإعلام على اختلافها، وضرورة عدم إقصار الترويج إعلامياً على جهة أو جهات قليلة ومُحدّدة تبث الأخبار وبعضها يفبركها على هواه ومزاجه، ويسيطر على الفضاء والمطابع، في خطاب أيديولوجي غير مباشر لا يمت بصلة لمصالح العالم العربي القومية والوطنية والإقليمية، بدلاً من إتباع سياسة تنويع المصادر الإخبارية وتوسيع قاعدتها المعلوماتية والسياسية، مثلاً لتشمل الصين أيضاً ووكالاتها وفضائيتها وصحائِفها الناطقة بالعربية، ليتمكن القارئ العربي من إختيار المناسب لتوجهاته، والوصول بالتالي الى الحقيقة من خلال هذا التنويع، بدلاً من فرض أخبار وجهات معينة على عقله قد تكون طاردة لإهتماماته.
الندوة التي نحن بصددها، تم تنظيمها من خلال مكتب الإعلام لمجلس الدولة الصيني (وهو بمثابة وزارة إعلام)، بالتعاون مع جامعة الدول العربية، ككل ندوة تعقد في الصين تتناول وتبحث في العلاقات مع الإعلام العربي برمته، لذا لم ينسَ الجانب الصيني الإشارة في حفل الإفتتاح الى طريق الحرير البري والبحري، الذي ربط العرب بالصينيين طويلاً، فكان هو الآخر طريقاً مُجرَّباً للإعلام وتدفق المعلومات، وتوثيق العلائق الدبلوماسية والتجارية أيضاً بين العالمين الصديقين منذ ألوف السنين الخوالي.
تمخضت الندوة عن قرارات تتعلق بتبادل المعلومات وتدريب المتخصصين في وسائل الإعلام والتغطية الإعلامية المشتركة بين الصين والعرب، وتوجيه الرأي العام لتعريفه بأهمية التعاون في المجالات الإعلامية والإقتصادية والتجارية، مما يرسّخ قواعد إرادة الشعبين الصيني والعربي، للإسهام في تنمية علاقة الشراكة الإستراتيجية بينهما، وتم الإتفاق على استمرار تنظيم هذه الندوة كل سنتين، لبناء مِنبر فعّال للتبادل والتواصل في مجال الإعلام، على أن تكون الدورة المقبلة في الكويت عام2014.