توجّه السعودية نحو الصين: الخيارات والدلالات [2/4]
صحيفة الأخبار اللبنانية –
الدكتور أحمد ملّي:
شهدت السنوات الأخيرة توسع نطاق التعاون الصيني – السعودي، متفرعاً من تجارة الطاقة إلى استثمارات في البنية التحتية، والاتصالات، والتكنولوجيا الفائقة (High Tech)، والصناعة والتمويل، والنقل، والطاقة المتجددة والنووية، وإنتاج الأسلحة. إنّ إلقاء نظرة سريعة على حجم التجارة الثنائية السنوية يتبيّن أنها بلغت 87.31 مليار دولار أميركي في نهاية عام 2021. وإذا ما حاولنا إنشاء رسم بياني لنمو التجارة الثنائية السنوية فسنلاحظ أنه زاد قدرها 209 أضعاف تقريباً عن 418 مليون دولار أميركي عند إقامة العلاقات الديبلوماسية عام 1990، أي قبل ما يزيد قليلاً على ثلاثين عاماً.
المجالات الرئيسة للتعاون الاستراتيجي
أ- النفط في رأس القائمة
لا يحتاج المرء لكثير من العناء ليتمثّل المعالم العامة لمشهد الطاقة بين الصين والسعودية، أخذاً في الاعتبار الأحجام الكلية لاقتصاد البلدين. فقد نجحت الصين في أن تحجز لنفسها منذ سنين مرتبة ثاني أكبر اقتصاد على مستوى العالم، وعلى رغم أنها كانت منذ فترة طويلة منتجاً رئيسياً للنفط إلا أنّ استهلاكها المحلي الآن يتجاوز إنتاجها بكثير، فقد بلغ مستوى الاستهلاك في عام 2014 معدّل 13.1 مليون برميل في اليوم، ومن المتوقع أن يصل مستوى الاستهلاك إلى 20.8 مليون برميل في اليوم بحلول عام 2040، مما يجعل من الاستيراد سمة أساسية من سمات الاقتصاد الصيني المستمر في النمو. في المقابل، يعتبر اقتصاد السعودية أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط وثاني أكبر دولة في العالم من حيث احتياطيات النفط الخام المؤكدة عند 267 مليار برميل، بالتالي فإنها تشكّل وفق الاعتبارات الكمية على الأقل، عاملاً رئيساً طويل الأجل في أمن الطاقة بالنسبة للصين. ومع إقامة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، كانت واردات الصين من النفط السعودي تزداد بشكل مطّرد، بخاصة خلال العقدين الأخيرين، ففي حين بلغت قيمة صادرات الوقود الأحفوري السعودية إلى الصين 1.5 مليار دولار في عام 2000، ارتفعت وتيرتها بشكل عال لتصل إلى 31.3 مليار دولار بحلول عام 2018، وبالتأكيد يعود الفضل في حدوث هذه الطفرة في حجم الواردات النفطية لزيارة الدولة للرئيس جيانغ زيمين في عام 1999، وهي المرة الأولى التي يزور فيها رئيس دولة صيني المملكة، وتوقيعه اتفاقية التعاون النفطي الاستراتيجي كما أسلفنا من قبل. ومنذ عام 2019، يقدّر معدل استيراد الصين من النفط بـ 10 ملايين برميل في اليوم وتبلغ نسبة ما تستورده من منطقة الخليج بحوالي 40%، أمّا نسبة ما تستورده من النفط السعودي فقد بلغ 17% من إجمالي الاستيراد الصيني. أمّا بلغة الأرقام السعودية، ففي عام 2021 استوردت الصين قرابة 1.8 مليون برميل من النفط السعودي يومياً، أي 27% من صادرات المملكة من النفط الخام إلى الخارج، وفي تشرين الأول 2022 احتلّت المملكة المرتبة الأولى في تصدير النفط الخام للصين متخطيةً روسيا التي حلّت في المرتبة الثانية. والأهم من كل ذلك، أظهرت تقلبات السوق النفطية، وبعضها ناجمة عن تقلبات سياسية، أن بإمكان الصين الاعتماد على المملكة ليس لتأمين الكميات المعتادة التي طلبها الصينيون فحسب، بل لجهة إمكانية تعويضهم عن النقص الحاصل من بلدان أخرى نتيجة ظروف طارئة، وهذا الأمر متاح لدى المملكة للمرونة التي تتمتع بها من حيث زيادة قدرتها لإنتاج كميات إضافية من النفط. فعلى سبيل المثال، بعد انسحاب الولايات المتحدة من «خطة العمل الشاملة المشتركة» (JCPOA) فرضت عقوبات على إيران في أيار 2018، في تلك المرحلة كانت إيران تزود الصين بنسبة 7% من وارداتها النفطية، وكانت الصين بحاجة إلى إيجاد مصدر بديل للتعويض، تحولت الصين إلى السعودية التي ضاعفت تقريباً صادراتها إلى الصين من 921,881 برميلاً يومياً إلى 1،802،788 برميلاً يومياً بين تموز 2018 وآب 2019.
ب- المصافي والبتروكيماويات
اتخذت «أرامكو» في أوائل 2022 قراراً استثمارياً نهائياً ببناء مصفاة ومجمع للبتروكيماويات بعشرة مليارات دولار في مدينة بانجين في مقاطعة لياونينغ شمال شرقي الصين على الحدود مع كوريا الشمالية، في أكبر استثمار منفرد لها في البلاد.
والمشروع الذي أُطلق عليه اسم شركة «هواجين-أرامكو للبتروكيماويات» هو مشروع مشترك يضم «أرامكو» ومجموعة «هواجين» للصناعات الكيماوية، وهي وحدة تابعة لـ«نورينكو»، ومجموعة «بانجين سينسين» الصناعية. ويضم المشروع، المتوقع أن يبدأ تشغيله في 2024، مصفاة تبلغ طاقتها 300 ألف برميل في اليوم ومصنع إيثيلين بطاقة 1.5 مليون طن سنوياً، ومن المقرر أن توفر «أرامكو» ما يصل إلى 210 آلاف برميل يومياً من النفط الخام. والاستثمار المشابه الآخر لـ«أرامكو» في الصين في مقاطعة فوجيان، وهي مقاطعة ساحلية تقع في جنوب شرقي الصين قبالة جزيرة تايوان. وهو عبارة عن حصة من 25 في المئة في شركة التكرير والبتروكيماويات المحدودة في المقاطعة التي تسيطر عليها شركة التكرير الحكومية العملاقة «سينوبك»، التي بدأت في 2008 بتشغيل مصفاة تبلغ طاقتها الإنتاجية 280 ألف برميل يومياً ومجمع إيثيلين بطاقة 1.1 مليون طن سنوياً. وقعت «أرامكو» في تشرين الأول 2018 اتفاقية للاستحواذ على حصة من 9% في مصفاة تشيدها شركة «Zhejiang Petrochemical» التي تعمل على تطوير مصفاة متكاملة ومجمع للبتروكيماويات بطاقة 800 ألف برميل يومياً، مع شبكة تجزئة متكاملة، وتقع في جزيرة تشوشان بمقاطعة جيجيانغ وتقع في المنطقة الشرقية من الصين وعاصمتها هانغتشو. وفي آذار 2011، وقعت «أرامكو» و«بتروتشاينا» مذكرة تفاهم لإنشاء مصفاة في يونان الواقعة في الجنوب الغربي من الصين والقريبة من حدود فيتنام، واتفق على تصميم المصفاة لمعالجة 200 ألف برميل يومياً من النفط الخام العربي. وفي أيلول 2016، وقعت شركة «سابك» السعودية مع مجموعة صناعة الفحم «نينغشيا» Shenhua Ningxia Coal Industry Group (SNCG) وبرعاية من حكومة منطقة نينغشيا ذاتية الحكم لقومية هوي الصينية في شمال وسط الصين، اتفاقية لتطوير مشروع مشترك لبناء مجمع جديد لتحويل الفحم إلى مواد كيماوية. وبالمثل، تمتلك سينوبك 37.5 في المئة في ينبع أرامكو سينوبك للتكرير (ياسرف)، وهي مشروع مشترك مع «أرامكو» يُشغل مصفاة بطاقة 400 ألف برميل في اليوم في ينبع على ساحل البحر الأحمر.
ج- التجارة والاستثمارات
تربط بين الصين والسعودية علاقات قوية، وخلال السنوات الخمس الماضية كانت الصين هي الشريك التجاري الأول للمملكة حيث جاءت السعودية أكبر الدول العربية استقبالاً للاستثمارات الصينية خلال الفترة الممتدة من 2005 إلى 2021 بنحو 43.5 مليار دولار، استحوذت السعودية على 26.3 في المئة من التجارة الخارجية للصين مع الدول العربية، البالغة 332.2 مليار دولار خلال العام الماضي. في المقابل، استثمرت السعودية، أو تخطط لاستثمار، حوالي 35 مليار دولار أميركي في مشاريع مقرها الصين، حيث يصل الإنتاج إلى 7.5 مليون طن من المواد الكيماوية، أو 45% من إجمالي الطاقة الإنتاجية في الخارج للمنتجين السعوديين. ووفقاً لرصد وتحليل بيانات صينية وسعودية رسمية، بالإضافة إلى بيانات دولية من بينها قاعدة بيانات برنامج «تعقب الاستثمارات العالمية للصين» التابع لمعهد «أميريكان أنتربرايز» (The Tracker American Enterprise Institute’s China Global Investment) يتبيّن أن أكثر من 82 في المئة من نسبة الاستثمارات الصينية في العالم العربي، ومن بينها السعودية، تتركّز في أربع قطاعات، هي: الطاقة والنقل والبناء والخدمات. وشهدت الاستثمارات الصينية في المملكة نمواً سريعاً منذ إطلاق «مبادرة الحزام والطريق» في عام 2013، إذ نجحت الصين عبر شركاتها في الحصول على عقود إنشاءات في البنية التحتية في المملكة لا سيما في بناء الموانئ وتشييد السكك الحديدية بالنسبة للصين، هذه المشاريع بحد ذاتها مجزية اقتصادياً، وفي الوقت نفسه تعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح من منظور جيوسياسي وفقاً لـ«مبادرة طريق الحرير»، وقد بلغت القيمة الإجمالية للمشاريع المتعاقد عليها التي أنجزتها الشركات الصينية في السعودية في الفترة ما بين 2014 و 2019 نحو 40 مليار دولار، ويمثل هذا المبلغ ضعف القيمة المقابلة للفترة ما بين الأعوام 2008 و2013.
من بين المشاريع الحيوية حصول شركة السكك الحديدية الصينية (CRCC) في عام 2009 على عقد بقيمة 1.8 مليار دولار ضمن كونسورتيوم لإنشاء شبكة سكة حديد عالية السرعة، ويبلغ طول هذه الشبكة 450 كلم، تربط مدينة جدة المطلة على البحر الأحمر بمكة والمدينة (قطار الحرمين السريع) لخدمة الحجاج، وفازت الشركة الصينية نفسها في العام نفسه ضمن كونسورتيوم بالتزام مشروع «مترو أنفاق المشاعر المقدسة»، وهو خط سكة حديد يربط مكة المكرمة بالمشاعر المقدسة، وهي: منى، وعرفات، ومزدلفة، ويبلغ طول مسار المترو نحو 18.1 كلم، ويبلغ ارتفاعه فوق منطقة الجمرات 45 متراً.
وتعدّت مشاريع الشركة الصينية لتشييد سكك الحديد منطقة الحجاز لتغطي أغلب مناطق المملكة الأخرى ومنها خط بطول 2700 كلم يربط بين الشمال والجنوب في السعودية، وخط ثان يبلغ طوله 550 كلم يربط المملكة بدول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، لا بل إن التعاون الصيني-السعودي في مجال إنشاء خطوط سكك الحديد تخطّى حدود المملكة ليصل إلى الممر الصيني-الباكستاني (CPEC) والذي يندرج ضمن «مبادرة الحزام والطريق» حيث يلعب ميناء غوادر (Gwadar) دوراً بارزاً، سيفتح الممر الاقتصادي الصيني الجديد طريقاً برياً جديداً لنقل النفط والغاز لدول الخليج العربية وعلى رأسها السعودية، من دون الحاجة للمرور بحراً عبر مضيق ملقا.
وفي إطار الرؤية السعودية (2030) بتجهيز المرافق العامة ومرافق النقل حصلت شركة «باور تشاينا» على عقد بقيمة 3 مليارات دولار في عام 2018 لتنفيذ مشروع ضخم لبناء السفن، المتمثل في «مجمع الملك سلمان العالمي للصناعات والخدمات البحرية» حيث تمّ وضع حجر الأساس لإقامة هذا المجمع في تشرين الثاني من عام 2016 في ميناء رأس الخير بالقرب من مدينة الجبيل الصناعية. ويسهم هذا المشروع في تنمية قطاع الطاقة ويلبّي احتياجات بناء الحفارات البحرية للنفط والغاز، والمنصات البحرية وسفن الدعم البحري، وناقلات النفط الخام العملاقة، إلى جانب مجموعة متنوعة من المعدات البحرية والسفن التجارية، إضافة لإمكانية توفير أعمال الصيانة والترميم لجميع هذه المنتجات. وفي قبالة ميناء رأس الخير على ساحل الخليج وفي أقصى الطرف الجنوبي من ساحل البحر الأحمر في مدينة جازان، ظفرت الشركة الصينية «Pan Asia Pet Resin» بعقد يقدّر بحوالي 3.8 مليار دولار في أحد المشاريع العملاقة وهو عبارة عن المجمع الصناعي في جازان، ويُعَدّ هذا المشروع من بين أضخم المجمعات الصناعية التي أُنشئت خلال العشرين عاماً الماضية على مستوى العالم ويتكوّن المجمع من ثلاثة عناصر رئيسة، وهي: مصفاة لتكرير البترول، ومجمع توليد الكهرباء، ومدينة جازان للصناعات الأساسية والتحويلية.
د- مشاريع الكهرباء
سبق للشركات الصينية الانخراط في تنفيذ مشاريعها في هذا القطاع الحيوي، فقد حصلت شركة «Shengkong» على عقد بقيمة 880 مليون دولار لمصنع لمصابيح الإضاءة (LED) في مدينة الجبيل حيث تمّ وضع حجر الأساس لهذا المشروع في تموز 2019. كذلك منحت مؤسسة الشبكة الحكومية الصينية (SGCC) عقداً لمشروع العدادات الذكية للكهرباء بقيمة 1.1 مليار دولار من الشركة السعودية للكهرباء في كانون الأول عام 2019، ويعدّ مشروع العدادات الذكية للكهرباء واحداً من المشاريع الرئيسية التي تنفذها السعودية من أجل توفير الطاقة وخفض الانبعاثات في إطار «رؤية 2030»، كما أنه جزء مهم من بناء الشبكات الكهربائية الذكية والمدن الذكية في السعودية. ويشتمل المشروع على تركيب 5 ملايين عداد كهرباء ذكي وأنظمة رأسية وأنظمة دعم نهائية في جنوب غربي السعودية. وفي تشرين الثاني 2022، بدأ العمل في محطة الشعيبة السعودية لتوليد الطاقة الكهروضوئية وبطاقة إنتاجية قدرها 2060 ميغاواط في منطقة الشعيبة بمنطقة مكة المكرمة، بموجب عقد لمصلحة شركة الصين لهندسة الطاقة (CEEC) بقيمة 1.75 مليار دولار، وبحسب شركة تطوير المرافق السعودية «أكوا باور» المملوكة جزئياً لصندوق الاستثمارات العامة، وهو صندوق الثروة السيادية السعودي والمالكة بالمناصفة لهذا المشروع، فإن هذه المحطة هي أكبر محطة طاقة شمسية كهروضوئية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وامتد التعاون الصيني-السعودي في مجال الكهرباء إلى أبعد من الداخل السعودي، فقد أعلنت «أكوا باور» في أيلول الماضي، أنها اتفقت مع صندوق طريق الحرير على الاستثمار المشترك في محطة طاقة تعمل بالغاز بقدرة 1.5 جيغاوات في أوزبكستان مقابل مليار دولار، وهي جزء من مبادرة بكين «حزام واحد طريق واحد».
* أستاذ السياسات الدولية في الجامعة اللبنانية