موقع متخصص بالشؤون الصينية

وجهة نظر: الحرب التجارية الأمريكية وتداعياتها على الاقتصاد العالمي.. دعوة لتعزيز التعاون بين بلدان الجنوب

0

بقلم وارف قميحة

في خطوة تصعيدية جديدة، تستعد الولايات المتحدة لفرض تعريفات جمركية على شركائها التجاريين اعتبارًا من 2 أبريل، ما يهدد بإشعال موجة جديدة من التوترات الاقتصادية العالمية. هذه السياسة الحمائية التي تنتهجها واشنطن ليست بالأمر الجديد، لكنها تأتي في وقت حساس يعاني فيه الاقتصاد العالمي من تداعيات جائحة كوفيد-19 والتوترات الجيوسياسية المستمرة. ومع تصاعد هذه الإجراءات، تبرز الحاجة إلى تعزيز التعاون بين بلدان الجنوب العالمي لمواجهة التأثيرات السلبية لهذه الحرب التجارية وحماية مصالحها الاقتصادية.

على مر التاريخ، لم تؤدِ الحروب التجارية إلى نتائج إيجابية على المدى الطويل، بل غالبًا ما كانت تُلحق الضرر بجميع الأطراف. وقد أظهرت التقارير الاقتصادية الصادرة عن الأمم المتحدة أن هذه الإجراءات لم تحقق الفائدة المرجوة للولايات المتحدة نفسها، بل انعكست سلبًا على الشركات والمستهلكين الأمريكيين. ومع ارتفاع الأسعار وانخفاض القدرة الشرائية، بات واضحًا أن الاقتصاد الأمريكي ذاته لم يكن بمنأى عن تأثيرات هذه الحرب.

لم يقتصر الضرر على طرفي النزاع فحسب، بل امتد ليشمل الاقتصاد العالمي بأسره. فعانت الشركات في مختلف أنحاء العالم من اضطرابات في سلاسل التوريد بسبب ارتفاع تكاليف الاستيراد والتصدير، ما أدى إلى تباطؤ الإنتاج وتراجع الاستثمارات. وكانت الأسواق الناشئة الأكثر تأثرًا، إذ إنها تعتمد بشكل أساسي على التجارة العالمية لجذب الاستثمارات وتحقيق النمو. ومع تصاعد التوترات التجارية، شهدت هذه الأسواق انخفاضًا في تدفقات الاستثمار الأجنبي، مما أدى إلى تعثر قطاعات حيوية مثل الصناعة والزراعة والخدمات.

في ظل هذه التطورات، تبدو الحاجة ملحّة أكثر من أي وقت مضى لتعزيز التعاون بين بلدان الجنوب العالمي. إن التعاون بين الدول النامية ليس مجرد خيار، بل هو ضرورة استراتيجية لمواجهة الضغوط الاقتصادية التي تفرضها السياسات الحمائية للدول الكبرى. فعلى مر التاريخ، أثبتت بلدان الجنوب قدرتها على تحقيق إنجازات اقتصادية مهمة عندما تتبنى سياسات تعاونية. فإن مجموعة “بريكس”، التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، تمثل نموذجًا ناجحًا لمثل هذا التعاون، حيث تمكنت من إنشاء بنك التنمية الجديد، الذي يوفر تمويلًا بديلًا للدول النامية بعيدًا عن المؤسسات المالية الغربية التقليدية.

إلى جانب ذلك، تأتي مبادرة الحزام والطريق الصينية كإطار اقتصادي شامل لتعزيز الترابط الاقتصادي بين بلدان الجنوب. هذه المبادرة تهدف إلى تطوير البنية التحتية وتعزيز التجارة والاستثمار بين الدول المشاركة. فبالنسبة للعديد من الدول النامية، توفر هذه المبادرة فرصة ثمينة لتنمية اقتصاداتها عبر مشروعات ضخمة في مجالات النقل والطاقة والتكنولوجيا.

لكن رغم النجاحات التي حققتها بعض مشاريع التعاون بين بلدان الجنوب، لا تزال هناك تحديات كبيرة تعيق تحقيق تكامل اقتصادي حقيقي. على رأس هذه التحديات يأتي نقص التمويل، إذ إن العديد من الدول النامية تعتمد على القروض من المؤسسات المالية الغربية، التي تفرض شروطًا صارمة غالبًا ما تؤدي إلى زيادة الأعباء الاقتصادية بدلًا من تخفيفها. وكذلك، فإن التجارة البينية بين بلدان الجنوب لا تزال ضعيفة مقارنة بحجم التبادل التجاري الذي يتم بين هذه الدول والدول المتقدمة، ما يجعل اقتصاداتها أكثر عرضة لتقلبات الأسواق العالمية.

وفي الوقت نفسه، تمثل التحديات السياسية والجيوسياسية عائقًا آخر أمام تحقيق تعاون اقتصادي فعال. فبعض دول الجنوب تعاني من عدم الاستقرار السياسي، ما يجعلها أقل قدرة على تبنّي سياسات اقتصادية طويلة الأمد. إضافة إلى ذلك، فإن الضغوط التي تمارسها القوى الكبرى على الدول النامية، سواء من خلال العقوبات الاقتصادية أو التهديدات التجارية، تجعل من الصعب على هذه الدول تنفيذ استراتيجيات اقتصادية مستقلة.

ورغم هذه العقبات، فإن تعزيز التعاون بين بلدان الجنوب يظل الخيار الأمثل لمواجهة التحديات الاقتصادية الراهنة. ومن أجل تحقيق ذلك، يجب أن تعمل هذه الدول على تطوير تكتلات اقتصادية إقليمية قوية تقلل من اعتمادها على الأسواق الغربية. إن تجارب مثل منطقة التجارة الحرة الأفريقية تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح، حيث توفر منصة لتعزيز التجارة البينية وتحقيق نمو اقتصادي مستدام داخل القارة.

وفي نفس الوقت، يجب أن يكون إنشاء آليات تمويل بديلة أولوية قصوى. فبدلا من الاعتماد على المؤسسات المالية الغربية، يمكن لبلدان الجنوب تعزيز دور البنوك الإقليمية التي تقدم تمويلا بشروط أكثر مرونة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن التعاون في مجال التكنولوجيا يجب أن يكون محورا أساسيا في استراتيجيات هذه الدول، إذ إن تبادل المعرفة التكنولوجية والاستثمار في البنية التحتية الرقمية يمكن أن يسهم في تقليل الفجوة التكنولوجية بينها وبين الدول المتقدمة.

وعلى المستوى السياسي، تحتاج بلدان الجنوب إلى تبني سياسات تجارية أكثر تنسيقًا لمواجهة السياسات الحمائية للدول الكبرى. فمن خلال بناء تحالفات قوية داخل المنظمات الدولية، يمكن لهذه الدول الضغط من أجل إرساء قواعد تجارية أكثر عدالة تحفظ مصالح الدول النامية وتمنع القوى الاقتصادية الكبرى من فرض إجراءات تجارية أحادية الجانب.

إن النظام الاقتصادي العالمي يشهد اليوم تحولات عميقة، حيث تحاول بعض القوى الكبرى إعادة تشكيله بما يخدم مصالحها الخاصة على حساب الدول النامية. ولذلك، أصبح من الضروري أن تعمل بلدان الجنوب بشكل مشترك لتعزيز موقعها في الاقتصاد العالمي، والدفاع عن حقوقها الاقتصادية، وبناء نموذج تنموي أكثر استدامة وعدالة.

تتطلب مواجهة التحديات الحالية رؤية جديدة قائمة على التعاون والتكامل بين بلدان الجنوب، بعيدا عن الهيمنة الاقتصادية للقوى الكبرى. فمن خلال تعزيز الشراكات الاقتصادية، والاستثمار في التكنولوجيا، وإنشاء آليات تمويل بديلة، يمكن لهذه الدول أن تبني اقتصادا أكثر قوة واستقلالية، قادرا على مواجهة التحديات الاقتصادية العالمية وتحقيق التنمية المستدامة لشعوبها.

 

ملحوظة المحرر: وارف قميحة، هو رئيس معهد طريق الحرير للدراسات والأبحاث اللبناني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وكالة أنباء ((شينخوا)).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.